فصل: فصــل في قولهم: إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل دون الاستقراء، فقالوا‏:‏ إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن، وأن المحكوم عليه قد يكون جزئيًا، بخلاف الاستقراء، فإنه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليًا، قالوا‏:‏ وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته‏.‏ فإن كان في جميع الجزئيات، كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية؛ لكونها محكومًا بها على جميع جزئيات المتحرك من الجماد والحيوان والنبات، والناقص كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته، ولعله فيما لم يستقرأ على خلافه / كالتمساح، والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني، وإن كان منتفعًا به في الجدليات‏.‏

وأما قياس التمثيل‏:‏ فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما، كقولهم‏:‏ العالم موجود، فكان قديما كالباري‏.‏ أو هو جسم فكان محدثَا كالإنسان، وهو مشتمل على فرع وأصل وعلة وحكم، فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال، والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان، والعلة الموجودة أو الجسم، والحكم القديم أو المحدث‏.‏

قالو‏:‏ ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيًا، والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا‏.‏ قالوا‏:‏ وهو غير مفيد لليقين؛ فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما، إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم، وكل ما يدل عليه فظني، فإن المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم‏.‏

أما الطرد والعكس، فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودًا وعدما، ولابد في ذلك من الاستقراء، ولا سبيل إلى دعواه في الفرع؛ إذ هو غير / المطلوب، فيكون الاستقراء ناقصا، لا سيما و يجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها، ويكون وجودها في الأوصاف متحققًا فيها، فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته، وعند انتفائه فينتفي لنقصان العلة، وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع، ثبوت الحكم، لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها‏.‏

وأما السبر والتقسيم، فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة، وإبطال كل ما عدا المستبقى‏.‏ وهو ـ أيضا ـ غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتًا في الأصل لذات الأصل لا لخارج، و إلا لزم التسلسل، وإن ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها أبدًا، وإن لم يطلع عليه مع البحث عنه، وليس الأمر كذلك في العاديات، فإنا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا، ونحن لا نشاهده، وإن كان منحصرًا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع، وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل، لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى، ولا امتناع فيه، وإن كان لا علة له سواه، فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه، وإن بين أن ذلك الوصف يلزم لعموم ذاته الحكم، فمع بعده يستغنى عن التمثيل‏.‏

/ قالوا‏:‏ والفراسة البدنية هي عين التمثيل، غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها، وهو المسمى في عرف الفقهاء بقياس الدلالة، فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها، ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر؛ إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق الباطن وخلق ظاهر، فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج، ثم بالمزاج على الخلق الباطن، كالاستدلال بعرض الأعلى على الشجاعة، بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد، ثم إثبات العلة في الأصل لابد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم، وإن قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة، فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل، وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر‏.‏هذا كلامهم‏.‏

 فيقال‏:‏ تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل، بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين، أفاد الآخر اليقين‏.‏ وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن، فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين‏.‏ فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا، حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا، لم يفد إلا الظن‏.‏ والذي يسمى في أحدهما حدًا أوسط هو في الآخر الوصف المشترك، والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف / المشترك بين الأصل والفرع، فما به يتبين صدق القضية الكبرى، به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم‏.‏ فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك‏.‏

فإذا قلت‏:‏ النبيذ حرام قياسًا على الخمر؛ لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك‏:‏ كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام‏.‏ فالنتيجة‏:‏ قولك‏:‏ النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر؛ والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط، المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى‏.‏

فإذا قلت‏:‏ النبيذ حرام قياسًا على خمر العنب؛ لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع، فثبت التحريم لوجود علته؛ فإنما استدللت على تحريم النبيذ بالسكر وهو الحد الأوسط، لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي يثبت به الفرع، وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع، أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي، وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك، لم يكن ذكر الأصل محتاجًا إليه‏.‏

والقياس لا يخلو، إما أن يكون بإبداء الجامع، أو بإلغاء الفارق، و الجامع إما العلة وإما دليلها وإما القياس بإلغاء الفارق، فهنا الغاء الفارق هو الحد الأوسط‏.‏/ فإذا قيل‏:‏ هذا مساو لهذا، ومساوي المساوي مساو، كانت المساواة هي الحد الأوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة‏.‏

فإذا قيل‏:‏ لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو متعذر، فهو بمنزلة قولك‏:‏ هذا مساو لهذا‏.‏ وحكم المساوي حكم مساويه‏.‏

 وأما قولهم‏:‏ كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ، فظني‏.‏

فيقال‏:‏ لا نسلم؛ فإن هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا‏.‏ ثم نقول‏:‏ الذي يدل به على علية المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى، وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس التمثيل، سواء كان علميًا أو ظنيًا؛ فإن الجامع المشترك في التمثيل، هو الحد الأوسط، ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط، ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر، وهو ثبوت العلة في الفرع‏.‏

فإذا كان الوصف المشترك، وهو المسمى بالجامع، والعلة أو دليل العلة أو المناط أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتًا في الفرع، لازمًا له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى‏.‏ وإذا كان الحكم ثابتًا للوصف لازمًا له، كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى‏.‏ وذكر الأصل يتوصل به إلى إثبات / إحدى المقدمتين، فإن كان القياس بإلغاء الفارق فلابد من الأصل المعين؛ فإن المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما، وهو إلغاء الفارق هو الحد الأوسط، وإن كان القياس بإبداء العلة، فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه، وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه فيذكر الأصل؛ لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك، وهو الحد الأكبر‏.‏ وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل وقياس الشمول أخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيًا في مواد معينة، وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في قياس التمثيل، لا تفيد إلا الظن في قياس الشمول، وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول، أفاد اليقين في قياس التمثيل أيضًا‏.‏ وكان ظهور اليقين به هناك أتم‏.‏

فإذا قيل في قياس الشمول‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم، كان الحيوان هو الحد الأوسط وهو المشترك في قياس التمثيل، بأن يقال‏:‏ الإنسان جسم، قياسًا على الفرس وغيره من الحيوانات؛ فإن كون تلك الحيوانات حيوانًا، هو مستلزم لكونها أجسامًا‏.‏ وإذا نوزع في علية الحكم في الأصل، فقيل له‏:‏ لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسيمة، كان هذا نزاعًا في قوله‏:‏ كل حيوان جسم‏.‏ وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع، إذا سمى علة، فإنما يراد به ما يستلزم الحكم؛ سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج، أو كان مستلزما لذلك،

/ومن الناس من يسمى الجميع علة، لاسيما من يقول‏:‏ إن العلة إنما يراد بها المعرف؛ وهو الأمارة والعلامة والدليل، لا يراد بها الباعث والداعي، ومن قال‏:‏ إنه قد يراد بها الداعي وهو الباعث فإنه يقول ذلك في علل الأفعال‏.‏ وأما غير الأفعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم، كاستلزام الإنسانية للحيوانية، والحيوانية للجسمية، وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر على أنا قد بينا في غير هذا الموضع، أن ما به يعلم كون الحيوان جسمًا، يعلم أن الإنسان جسم، حيث بينا أن قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها؛ وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات، يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى، بل وبذلك يعلم صدق النتيجة‏.‏

ثم قال‏:‏ وتناقضهم وفساد قولهم أكثر من أن يذكر‏.‏

والمقصود هنا الكلام على ‏[‏المنطق‏]‏، وما ذكروه من البرهان، وأنهم يعظمون قياس الشمول، ويستخفون بقياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن، و أن العلم لا يحصل إلا بذاك، وليس الأمر كذلك، بل هما في الحقيقة من جنس واحد، وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علمًا كان أو ظنًا من مجرد قياس الشمول؛ ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول، بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل، وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور، فإنه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك / الصور‏.‏ ومثلنا هذا بقولهم‏:‏ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإنه من أشهر أقوالهم الفاسدة الإلهية‏.‏ وأما الأقوال الصحيحة، فهذا ـ أيضًا ـ ظاهر فيها، فإن قياس الشمول لابد فيه من قضية كلية موجبة، فلا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم‏.‏

والكلى لا يكون كليًا إلا في الذهن، فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج، كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليًا موجبًا، فإنه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية، انتزع منه وصفًا كليًا، لا سيما إذا كثرت أفراده، والعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية‏.‏

وحينئذ، فالقياس التمثيلي أصل للقياس الشمولي، إما أن يكون سببًا في حصوله، وإما أن يقال‏:‏ لا يوجد بدونه، فكيف يكون وحده أقوى منه، وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل‏:‏ الكل أعظم من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك‏.‏ وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده الخارجة أمور كثيرة، وإذا أريد تحقيق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من أفرادها‏.‏ وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي، وهذا حقيقة قياس التمثيل‏.‏

/ولو قدرنا أن قياس الشمول لا يفتقر إلى التمثيل، وأن العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر إلى العلم بمعين أصلا، فلا يمكن أن يقال‏:‏ إذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض أفراده في الخارج، كان أنقص من أن يعلمه بدون العلم بذلك المعين؛ فإن العلم بالمعين ما زاده إلا كمالا، فتبين أن ما نفوه من صورة القياس أكمل مما أثبتوه‏.‏

واعلم أنهم في ‏[‏المنطق الإلهي‏]‏ بل و ‏[‏الطبيعي‏]‏ غيروا بعض ما ذكره أرسطو، لكن ما زادوه في الإلهي هو خير من كلام أرسطو، فإني قد رأيت الكلامين‏.‏ وأرسطو وأتباعه في الإلهيات أجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير، وأما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد، وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي‏.‏

 وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل، إنما هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبًا، والفقهاء يستعملونه كثيرًا في المواد الظنية، وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس، فلو صوروا تلك المادة بقياس الشمول، لم يفد ـ أيضًا ـ إلا الظن، لكن هؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة، فجعلوا صورة قياسهم يقينيًا، وصورة قياس الفقهاء ظنيًا، ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية، كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم مؤلف فكان محدثًا قياسًا على الإنسان وغيره من المولدات، ثم أخذوا يضعفون هذا القياس، لكن إنما / ضعفوا بضعف مادته، فإن هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا لكون صورتها ظنية، ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة التمثيل أو الشمول‏.‏